ثامناً - : علم الجمال والنقد الأدبي



ثامناً - : علم الجمال والنقد الأدبي
من بين الإنجازات الهامّة التي تُسـجّل لهذا العصر التطوّر الكبير الذي أصاب البحث العلمي على صعيد العلوم والآداب 0وقد أفاد النقد الأدبي إفادة غير قليلة ليس من العلاقة الفاعلة بينه وبين العلوم الإنسانية فحسب ، وإنّما من الأسـس والطّرائق التي أرساها البحث العلمي 0 ولعلّه من المؤكّد أنّ البحث النقدي الذي يلتزم ، أو يفيد من تلك الأسس والطرائق لا بـدّ له من أن يتميّـز ، وان يحمل خصوصيّـة ، ويصـلَ إلى نتائـج تنعكسُ معطياتها - في الأغلب - إيجاباً على النقد والمبدع والمتلقّي 0
        ولعلّ الإنجاز الأهم يتمثّل في سـعي النقد الأدبي إلى الإفادة من العلوم الإنسانية ، وبخاصّة علم الجمال والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم اللسانيات 0 وقد يصبح بوسع النقد - بعد اتكائه الفعّال على تلك العلوم - أن يكتشفَ القوانين العامّة التي تنظّم الأجناس الأدبية ، ليتجاوز بذلك الاستغراق في جزئيات الخطاب الأدبي الذي كان سائداً ومايزال في النقد الأدبي التقليدي 0
        ويتولّـى اليـوم " علم الجمـال " الصـدارةَ من حيث الأهميـة في الدراسـات النقديـة ، وذلك من خلال قدرته على التغلغل في ثنايا الخطاب الإبداعي وتقويمه ، واكتشاف القوانين العامّة للظاهرة الأدبية 0
        ويمكن القول : إنّ الذي يميّز ناقداً من ناقد آخر ، أو دراسة نقدية من أخرى هو اتكاءُ إحداهما على معطيات " علم الجمال " دون الأخرى 0
        إنّ الهدف الأساسي لعلم الجمال هو دراسةُ السّلوك الإنساني عبر الممارستين الاجتماعية والفنية 0 وهو - في الفن ومن ضمنه الأدب - يتناول مسألتين أساسيتين؛ تتمثّل الأولى في البحث عن (القيم الجمالية): الجميل والقبيح والتراجيدي والكوميدي والجليل والبطولي والسامي والرفيع ، وتحديد ملامحها ومساحتها في الخطاب الإبداعي، وعلاقتها فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين القيم السّائدة في تلك الفترة من جهة أخرى ، وتتمثّل المسألة الثانية في دراسة علم الجمال (لجمالية الشكل الفنّي) والقوانين التي تحكمه ، ومدى قدرته ؛ أي قدرة هذا الشكل على تجسيد القيم الجمالية ، وتمثّلها 0
        وعلم الجمال عن طريق دراسته لهذه المسألة يستطيع أن يحـدّد مستوى الإبداع في النص؛ أي يكـون قادراً علـى إطلاق حكم قيمة ، لأنّه يدرس مدى تحوّل " المفاهيم الجمالية " إلى " قيم جمالية " داخل النص الإبداعي 0 فالمفهوم يظلُّ مفهوماً مادام خارج إطار الإبداع ؛ أي خارج إطار الذاتي في النص ، وحين يدخل المفهومُ إلى النص الإبداعي يصبح قيمةً بعـد خضوعه لذات المبدع ، وتشكّله ضمن الصورة الفنية الحيّة 0
       وبوسع علم الجمال - عبر دراسته للقيم الجمالية، ولجمالية الشكل الفني - أن يفتح حواراً مع العلوم الإنسانية، والمناهج النقدية الأخرى كافة دون استثناء؛ فهو أي النقد الأدبي يحتاج إلى إنجازات " علم النفس " و " المنهج النفسي " لاستبطان الجميل والقبيح في النص، وكذلك للبحث عن الأسباب التي كانت وراء تكوّن التراجيدي في النص، وغياب الكوميدي مثلاً، إلى جانب أنه يحتاج إلى ذلك للإجابة عمّا جعلَ الجميلَ جميلاً، والقبيـح قبيحاً ، والتراجيدي دائـم الحضور ، أو الانطواء . وهو يحتاج إلـى " مبادئ البنيوية " للإجابة عن أسئلة كثيرة تُثيرها بنيةُ النص من خلال البحث عن الأسس التي ترتكز عليها جمالية الشكل الفني ، عبر الثنائي والمتضاد والمتقابل بأشكاله المختلفة ضمن البُنى الفنية المتجاورة في النص .    
        ويمكن لعلم الجمال أن يفيد من فلسفة " التناص أو التفكيك " ليساعد ذلك على معرفة النصوص التي دخلت في علاقة تناص مع النص الذي يدرسه ، ومستوى ذلك التناص ، كما  يقدّم التناص إلى " علم الجمال " ما هو أكثر من ذلك من خلال البحث في قدرة النص المدروس على صهر النصوص الأخرى فيه ، وجعلها متوحدة في عناصره ، أو بقائها كما هي . وهو في هذا يساهم في الحكم على مستوى إبداع النص ، ومن ثمّ جماليته .
        وعلم الجمال يحتاج أيضاً إلى إنجازات " علم اللّسانيات " عبر دراسته للتلافيف المعقدة التي تخضع لها المفردة بعد دخـولها إلى النص ، ورحلتها الطويلة عبر الحركة والصوت و بنية النص .
       وهو يحتاج إلى " المنهج الواقعي " لربط القيم الجمالية في النص بالظرف التاريخي والاجتماعي الذي وُلدت فيه ، أي يساعده على بلورة القيم الجمالية والإحاطة بأبعادها المختلفـة ، وربطها بالمُثُـل الجمالية السـائدة في الفترة التي أنتجت النص .
       ويمكن لعلم الجمال أن يفيد من علـم التاريخ والاجتماع والفلسـفة ، وفلسفة الفن ، ونظرية الفن ، ونظرية الأدب ، وعلم الأدب ، وغير ذلك من العلوم الأخرى في دراسته للخطاب الإبداعي، أو الظاهـرة الإبداعية بشكل عام . 
       ما نريـد أن نقولـه هنا : إنّ " علم الجمال " من أكـثر العلـوم الإنسانيـة قابلية للحوار ، وأكثرها مرونـة وانفتاحـاً على العلـوم الإنسانيـة ، والمناهـج النقدية 0 لذلك فهو أكثرها تأثيراً في النقـد الأدبي ، وعلى النقد - من هذا المنطلق - أن يُشرِعَ كافة الأبواب باتجاهه .
       فالنقد الأدبي الذي يفيـد من علم الجمال يرتفع مستواه العلمي ، وتتضح لدى الناقـد الرؤية بشكل مميز ، ويستطيع أن يطرح مشروعه النقدي عبر الرؤيا .
       ولا بد من الإشارة إلى أن هناك من يظن أن المسافة بين النقد وعلم الجمال واسعة باعتبار أن النقد الأدبي يتناول جزئيات الخطاب الإبداعي ويستغرق في تفاصيل دقيقة لها علاقة بالمفردة والتركيب والصورة والصوت والإيقاع ، وما إلى ذلك ، بينما يهتم علم الجمال بالقوانين العامة للخطاب .ونحن نرى أنهما متكاملان ،وكلٌّ منهما بحاجة إلى الآخر لخدمة الإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة . وحبذا لو تمّت الإفادة من معطياته في قراءة النصوص في جامعاتنا .     
 إن مستوى "الوعي الجمالي " في مرحلة من المراحل يمكن أن يتحدد من خلال قدرته على التمييز بين "المفاهيم الجمالية" و"القيم الجمالية" في الفن والحياة . وهذا الوعي هو مصدر تحديد القيم الجمالية 0 ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ تحديد علماء الجمال لتلك القيم ساهم مساهمةً كبيرة في تصحيح كثير من مقولات النقد ، ووعي المبدعين 0  
ولعلّنا لا نخطئ  إذا  زعمـنا أنّ تلـك المعطيـات المذكـورة لو توفّرت للناقد ، أوللنقـد الأدبي أو لمن يمارس تدريس النصوص في جامعاتنا ، فحتماً سيصـل إلى نتائـج أكـثر دقّـة وعمقـاً وإحاطـة، ووضوحاً في مواجهتـه للخطـاب الإبداعـي 0

لكنّ الإنجاز الأهـم " لعلم الجمـال " يتمثّـل في اكتشافه للمَثَل الجمالي 0 ونظـنّ أنّ معرفـة " المثَـل الجمالي " بالنسبة للناقـد معرفـة جيدة تفتـح آفاقاً خصبة لدراسة النص الإبداعـي ، أو الظاهـرة الإبداعيـة . 



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire