تاسعاً - : المَثَل الجمالي والنقد الأدبي



تاسعاً - : المَثَل الجمالي والنقد الأدبي
من أهم إنجازات "علم الجمال " في العصر الحديث اكتشافـهُ "للمَثل الجمالي " الذي تتم بمعرفته معرفةُ القوانين العامـة التي تحكم الظواهـر الأدبيـة ، والفنية في عصر معين .

       إن كل إنسان  يُنتج بحسب حاجته إلى الأشياء . وينتج هذه الأشياء وُفق المقاييس التي تنظِّمُ طبيعتَها ، ولكنه يسعى - دائماً - إلى تطوير ما يُنتج ضمن المقاييس التي يرغب فيها ، أي في أن تكون عليه . وهذه المقاييس هي التي تكوِّن " المثل الجمالي " الذي يرغب فيه .

       إن " المَثل الجمالي " هو المقياس الذي يُنتج الإنسان أشياءه وفق معطياته . والفنان ينتج فنّه ضمن التصورات التي يرغب فيها . وهذه التصورات ما هي إلا  ذلك " المَثل الجمالي " الذي ينـزع إليه ، ويستقر فيه . وبمعنى آخر : إن " المَثل الجمالي " يقدّم فائدتين هامتين إلى الفنان - ومعه الأديب طبعاً - لا يمكن الاستغناء عنهما ، إذ بدونهما يتراجع الفن و الأدب ، ويضعف دورهما ، وربما يتلاشى .
      فهو في الحالة الأولى يُشكِّل مقياساً لإنتاج إبداع الفنان وُفق المقاييس التي تشكّل لديه هذا المَثَل . وهو حين يكتب أو يرسم أو يشكّل عملاً فنياً ما يقوم ببنائه على ضوء النموذج الفني الذي كوّنه لديه " المثل الجمالي " .
       فالمسرح في عصر النهضة الأوربي شدّد كثيراً على الالتزام بالوحدات الثلاث، وعلى عدم الخلط بين " التراجيدي "  " و الكوميدي "، وعدم " الإسفاف " في استخدام لغة العامة " أي لغة الشعب " ، واعتبار اللغة اليونانية هي الأسمى والأكثر نقاء ، وأكّد على أن الموضوع القديم هو الموضوع الأساسي الذي يصلُحُ لكي يكون مادةً للمسرح . وهذه السمات التي أصبحت فيما بعـد قوانين للمسرح الكلاسيكي في أوربـة وُضِعـت بناءً على النموذج المسـرحي  اليونانـي الذي أرساه و يوربيدس ، ورَسَم قواعده أرسطو . وهذا النموذج اليوناني كان يشكّـل بالنسبة إلى المسرح الأوربي في عصر النهضة "المَثل الجمالي " ، أي المعيار الذي يُصبح العمل المسرحي جميلاً كلّما اقترب منه ، أو من تحقيق أبرز ما فيه ، ويُصبح قبيحاً كلّما ابتعد عن محاكاته 0
       و " المَثَل الجمالي " يشكّل في الحالة الثانية حافزاً مهمّاً لا بدّ منه لكي يُنتج الفنانُ فنَّه ، والأديب إبداعاته 0 فعن طريق إيمان الفنان " بمَثَلٍ جمالي " أو أكثر ؛ فإنه يسعى إلى نقْله من حيّز المفهوم إلى حيّز القيمة ؛ أي يجعله مجموعةً من القيم الجمالية من خلال تمريره له عبر ذاته ، وأدواته الفنية التي يمتلكها 0 و" المَثَل الجمالي " حين ينتقل إلى " قيم جمالية " يكون قد أدّى دور الحافز الأقوى لممارسة المبدع لإبداعه 0
       ومقابل ذلك حين لا يكون هناك " مُثُل جمالية " لدى المبدع ؛ أو بمعنى أكثر دقّة حين تهتزُّ تلك المُثُل الجمالية في ذهنه ، فإنّه يتراجع ؛ لأنّه لا يجد شيئاً مهمّاً يكتبُ عنه ، أو يدفعه إليه ، أو يسعى إلى تجسيده 0 وهذا ما يحدث حينما تهتزّ " المُثُل الجمالية " في مرحلة معيّنة ، حيث تتشابه أصوات المبدعين فنانين أو شعراء أو ما سواهم ، ويختفي التميّز والخصوصية ، والتفرّد وتلفظ حرارة الفن أو" شعرية الفن " أنفاسها 0 ولعلّ كلّ ذلك يشكّل أبرز مظاهر الأزمة التي يُعاني منها الشعر العربي الجديد " شعر فترتي الثمانينيّات ، والتسعينيّات " ، حتى ليمكن تعميم ذلك على الأزمات التي يعيشها المسرح والأغنية والفن العربي المعاصر بشكل عام .
      والفن يكون أقوى في مرحلة من أخرى ؛ لأنّ " المُثُل الجمالية " أكثر وضوحاً ، وإيمان المبدعين بها أكبر من تلك ، وهذا هو الذي يدفعهم ؛ لأن يكتبوا ويعبّروا ويتميّزوا ويتفرّدوا 0
      ممّا تقدّم نلاحظُ أنّه حتى ينمو الإبداع ويتميّز لا بدّ من وجود " مُثُل جمالية " لتحفزَه على ذلك ، وليكتب ضمن مقاييسها 0
       هذا بالنسبة إلى أثر " المَثَل الجمالي " في الفنان ، أمّا أثرُه في الناقد فيتمثّل من خلال سعي الناقد إلى تقويم الخطاب الإبداعي ضمن معطيات ذلك " المَثَل "0 فيسعى إلى دراسة ذلك الخطاب والحكم عليه جميلاً أو قبيحاً ، تراجيدياً أو كوميدياً أو جليلاً ضمن المعايير التي يصوغها " المَثلَ الجمالي " الذي يتبناه 0
    لقد كان المَثَل الجمالي موجوداً سابقاً لكن " علم الجمال " هو الذي اكتشفه ، وأسّس له ، وبلوره 0
       ولا بدّ للناقد اليوم من الاعتماد على معطياته في دراسة كافة أشكال الخطاب الإبداعي التي تواجهه ؛ لأنّ معرفةَ حدود ذلك المَثَل في ظاهرة من الظواهر بالقياس إلى الفترة التي أنتجتها يُساهم في الأمور التالية : 

 أولاً-  تُعزّز معرفةُ " المَثَل الجمالي " قدرةَ الناقد على فَهم تلك الظاهرة من خلال اكتشاف قوانينها العامّة ، والحدود الأساسيّة التي تتحرّك ضمنها الظاهرة الأدبية في ذلك العصر 0 فمعرفةُ الناقد للمُثُل الجمالية السّائدة في عصر النهضة العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يُساهم في معرفة " المرجعيّات " الأساسيّة للتيّار التقليدي في الخطاب الشـعري السـّائد في تلك الفترة ، وفي معرفة القوانين التي تحكمه 0
ثانياً-   توفّر معرفةُ " المَثل الجمالي "في الظاهرة الإبداعية للناقد السُّبل للتعرّف إلى القيم الجمالية السّائدة في العصر المعني 0 علمـاً بأنّه يمكن أن تُساهم القيم بالتوصّل إلى معرفة ملامح المَثَل ؛ لأن التداخلُ بينهما واردٌ وطبيعي 0
ثالثاً-   تُسهِمُ  معرفةُ الناقـد " للمَثَل الجمالي " في الظاهرة في فهم بِنية النصّ الإبداعي 0 فالمَثل الجمالي في التيار الإحيائي ومن ثَمّ في التيار التقليدي في الشعر العربي الحديث هو عمود الشعر 0 وتعرّفُ الناقـد إلى طبيعة هذا العمود ، وتفاصيله في الشعر العربي القديم هو تعرّفٌ أكيدٌ ومباشر لبنية التيار الشعري الإحيائي والتقليدي ، وبنائه المعماري 0
رابعاً-  وتُفيدُ معرفة الناقد " للمَثل الجمالي " أيضاً في معرفة المؤثّرات التي ساهمت في تكوين النص أو الظاهرة المدروسة ؛ أي معرفة النصوص التي دخلت في عمليّة تناص مع النص المدروس 0 وهو بذلك يوفّرُ للناقد معرفة الجديد الذي قدّمَه المبدع بعد معرفة النصوص الأخرى 0 وكلُّ ذلك يُساعد بدوره على تحديد موقع المبدع أو الظاهرة الإبداعية في موقعهـا التاريخي الصحيح ، وبخاصّة إذا أجرى الناقد الدراسةَ على مجموعـة مـن النصوص المختلفـة التي تنتمي إلى ذلك العصر 0
          ممّا تقدّم نلاحظ الفائدة الكبيرة التي يُقدّمها " المَثَل الجمالي " إلى كلٍّ من  المبدع والناقد 0
    ويمكن للناقد السعي إلى دراسة بعض الظواهر الإبداعية في الخطاب الشعري العربي من اتكائه  في ذلك على معطيات " علم الجمال " ، و" المَثل الجمالي " ، وما يمكن أن يُقدّماه من إمكانات ، نظنّ أنها كبيرة 0

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire