ثانياً- : مصطلح الرؤيا :
الرؤيا تجربة مع المستقبل من خلال
الواقع عن طريق الذات المبدعة ؛ فهي تجربة لأنها لايمكن أن تُبنى في فراغ . ومن
علائم هذه التجربة الوعي ، وكذلك النضج الذي يحدده طول تجربة المبدع وقدرته على
التعامل مع مادته تعاملاً متجدداً ومتطوراً ومن ثم مبدعاً .
والرؤيا تتجه إلى
المستقبل من خلال الواقع ، وكل رؤيا لا تتجاوز الواقع تظل رؤية محكومة بسيطرة
الحواس الخمس ، وتفقد دورها الاساسي في
الاستشراف والخلق .
والرؤيا ينفذها الشاعر ؛ أعني
المبدع ، وإذا كانت الرؤية - بما تنطوي عليه من عناصر ذاتية وموضوعية تحكمها
الحواس - هي المرجعية الأولى التي تتشكل منها المادة الأساسية الرؤيا ، فإن ذات
الشاعر هي المرجعية الثانية المقابلة التي تقوم على تشكيل الرؤيا وتكوينها . ومن
دون حضور الطرفين المذكورين لا يمكن أن تكون هناك رؤيا .
والشاعر قد يكوّن الرؤيا عن
طريق توظيف الإمكانات الفنية كافة من كلمة وتركيب وصورة وأسطورة ورمز وإيقاع ،
بمعنى أن القصيدة تسعى إلى بناء عالم بديل يتجه مباشرة إلى الرؤيا دون الاتكاء على
عناصر الرؤية المذكورة ، وفي هذه الحالة تعلن الرؤيا عن نفسها ، ويمكن أن تسمى
القصيدة التي تُبنى على هذا النوع (قصيدة الرؤيا) . فتجربة (مجلة شعر) مثلاً هي
(قصيدة رؤيا) لأنها اتجهت إلى بناء الرؤيا مباشرة متجاهلة عناصر الرؤية . وربما
لهذا السبب اتسمّت بالغموض غالباً وبالإبهام أحياناً .
وقد يتم تكوين الرؤيا عن طريق توظيف الإمكانات المذكورة في
تجسيد الطرف المقابل لها وهو الرؤية . ويستطيع المتلقي في هذه الحالة أن يتتبع
الرؤيا ويكوّن ملامحها من خلال المواقف المثارة في صورة الرؤية .
ولابد من الإشارة إلى أن
دورالمتلقي في هذا النوع الأخير من الرؤيا يكون كبيرا ومجهِداً لأنه يشـارك في
تكوينها ، مثله كمثل الشاعر الذي يبدع العمل . ويقلُّ دوره فعالية في النوع السابق
باعتبار أن الرؤيا هناك تكاد تكون ناجزة .
ويمكن القول بصدد مصطلح الرؤيا أيضاً : هناك فرق كبير بين
الرؤيا الذاتية (القائمة على فرد وتمثل أحلام فـئة معيّنة) والرؤيا الاجتماعية
(الممثلة لتطلعات مرحلة وآمال مجتمع) .
وهناك فرق أيضاً بين الرؤيا ذات
السمة الواقعية (التى يشتقها الشاعر أو المبدع بعامة من الواقع ) وبين الرؤيا
المثالية (التى يغلب عليها الحدْس وتتخذُ من الوعي (الفكرة المطلقة لدى هيغل)
مصدراً لها ، كما يجب التفريق بيـن الرؤية الموضوعية ، وهي الرؤيا التى تبنى على
الرؤيا الاجتماعية ، وبين الرؤيا اللاموضوعية التى تتسم بالغيبية والفردانية .
يمكن أن ، نستنتج - مبدئياً مما
سبق - أن الرؤيا تعني أولاً : طموح المبدع وسعيه لرسم هذا الطموح وتجسيده ،
وغالباً مايتمثل هذا الطموح بعداً طبقياً أو إيديولوجياً يمثله الفرد ويعكس من
خلاله الوعي الجمالي لتلك الطبقة أو الإيديولوجيا .
وتعني ثانياً القدرة على النفاذ
إلى جوهر العلاقات الاجتماعية والنفس الإنسانية ؛ فهي لاتعني - بهذا المعنى -
صياغة المطمح الفردي أو الجماعي فحسب ؛ أي الاتجاه نحو المستقبل ، وإنما تعني - إلى
جانب ذلك - النفاذ إلـى الجذور وكشفها ، إنها اختراق لما هو قائم . وسواء أصاغه
الشاعر بشكل مباشر أم بشكل غير مباشر فهو رؤيا ، لأن الرؤيا تعني - في الأساس -
النفاذ إلى جوهر الأشياء . وبقدر مايكون هذا النفاذ واعياً تكون الرؤيا عميقة ،
وقيّمة .
ونودّ الإشارة بهذا الصدد إلى
أن هناك عناصر عديدة تشترك في تمتين قوة الرؤيا ووضوحها إلى جانب وعي الواقع هي :
-
التجربة الحياتية . وهي تفيد الشاعر في الإحاطة
بالواقع وفهمه فهماً دقيقاً .
-
التجربة الشعرية وهي
تمكّن الشاعر من صياغة الرؤيا جمالياً .
-
الحدس الموضوعي والقدرة
على النفاذ إلى جوهر أشياء الواقع .
-
الموقف الفلسفي المتكامل
إذ من دونه تصبح الرؤيا مضطربة .
إن الأعمال الإبداعية
العظيمة على مرّ العصور هي التي استطاعت أن توازنَ بين عناصر الرؤية والرؤيا ضمن
الصورة الفنية الحية وقوانين النمذجة والتعميم الفني
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire