سابعاً - ثلاثة مواقف جمالية زائفة في نقدنا الأدبي الحديث


سابعاً - ثلاثة مواقف جمالية زائفة في نقدنا الأدبي الحديث

من خلال تجربتي في التدريس الجامعي ، وعلاقتي المباشرة بزملائي واطلاعي على الطرائق التي يعتمدون عليها في دراسة النصوص القديمة والحديثة في تلك الجامعات ، ومن خلال متابعتي للحركة النقدية والدراسات وجـدتُ أن معظمها يحكمه ثلاثة مواقف جمالية أساسية ، هي :  
أولاً  الموقف الجمالي التقليدي الذي يُعلي دائماً من شأن الآخر ، والموضوع على حساب الذات ، أعني أنه يرى الذات من خلال الموضوع ، وفلسفياً يعتقد أصحاب هذا الموقف أن (المَثَل الجمالي ) هو النموذج الذي تمّ إنجازه سابقاً . ونقدياً يعتمد هذا الموقف على المنهج التاريخي الوصفي الذي يكتفي برصد محتويات الظاهرة الإبداعية من الخارج ، إلى جانب أنه يسعى إلى تفكيك النص وتجزيئه وتناول كل عنصر فيه على حده ممّا يؤدي إلى تدميره .
ثانياً  الموقف الجمالي ( التغريبي ) الذي يتخذ من النموذج الأوربي " مَثَلَهُ الجمالي " . وهو يعتمد غالباً علـى مناهج ذات اتجاه واحدي مثل : المنهج النفسي ، والأسطوري ،  والبنيوي ...
ثالثاً الموقف الجمالي ( التلفيقي ) الذي يجمع بين النموذج العربي القديم ، والنموذج الغربي جمعاً تعسفياً بطريقة لا تخلـو من التلفيق والهجانة ، فلاهي بالعربية ، ولاهي بالغربية .
ويتبع كل ذلك أنا مغرمون بالتنظير والهرب من مواجهة النص مواجهة تطبيقية . وقد غاب ضمن هذا الازدحام والتخبط الموقفُ النقدي العلمي المتكامل الذي يقرأ الظاهرة ضمن منهج يتكىء على أسس علمية واضحة ، إلى جانب غياب الأثر الكبير الذي تحدثه العلوم الإنسانية في قراءة الظاهرة الإبداعية ، ولعل الأبرز بينها عدم الإفادة الكافية أو لنكن أكثر دقة عدم الالتفات إلى أهمية علم الجمال في قراءة النص الإبداعي على الرغم من أن ميلاد هذا العلم يعود في أوربة إلى بداية العقد الرابع من القرن الثامن عشر . وبناء على ذلك يتخرّج طالبنا من الجامعة في أقسام اللغة العربية والفرنسية والإنكليزية وهو غير قادر على تقويم نص إبداعي بَلَـهٌ تذوّقه بشكل صحيح . ونحن نعيد ذلك إلى مجموعة من الأسباب أبرزها أن أغلب الذين يدرّسون النصوص في جامعاتنا لا يقرؤون أو لا يتابعون التطورات الكبيرة التي وصلت إليها قراءة النصوص ، أو بمعنى آخر أنهم رُبّوا على تلك المناهج التي أشرنا إليها وتوقّفوا عنـدها .
ويُشار بهذا الصدد إلى أن المواقف الثلاثة المذكورة تشكّل أساساً فلسفياً لمعظم المناهج النقدية التي يتكىء عليها نقدنا الحديث .
ولكن لابدّ من  التأكيد أن هذه الإشكالات التي يعاني منها النقدُ الحديث وتدريس النصوص في جامعاتنا لاينفي وجودَ نقاد هامين فيه داخل الحقل الأكاديمي أو خارجه . وحين نتحدّث عن النقد فنحن نقصد الظاهرة التي لا تنفي وجود أفراد مميّزين ضمنها .
إنّ النقد العربي الحديث الذي يعاني من الإشكالات المذكورة لم يقصّر في دراسة الأجناس الأدبية المعاصرة ومتابعتها فحسب ، وإنما قصّر في دراسة الأدب العربي القديم وضمنه الشعر . ويمكن القول : إن النقد العربي الحديث بعامة وتدريس النصوص في جامعاتنا بخاصّة ظَلَما الأدب العربي القديم ، لأنهما لم يكشفا - كما ينبغي - عن الآفاق الفنية والجمالية المختبئة فيه ، هذه الآفاق التي كانت سبباً رئيسيا في حضوره القوي ، وتأثيره الفعال واستمراره . لقد انصرف معظم النقد الحديث - في تناوله للنصوص الأدبية والشعرية القديمة - إمّا إلى اتّباع المنهج التاريخي الوصفي الذي يكتفي برصد محتويات الظاهرة من الخارج ، وهذا هو السائد في قراءة النصوص القديمة في جامعاتنا ، وإمّا إلى إخضاع هـذا الشعر إلى مناهج ذات اتجاه واحدي مثل : المنهج النفسي ، والأسطوري ، والبلاغي ، والبنيوي ...
والأكثر من ذلك أن هذا النقد كان غالباً يتعامل مع النصوص القديمة على أنها شكلٌ ومحتوى منفصلين عن بعضهما بعضاً .  فهو يتحدّث عن ا لمحتوى  في مكان ، ويتحدث عن الشكل في مكان آخر . ومعروفٌ أنّ جمال الشيء - بما في ذلك الفن والأدب - لايبدو واضحا إلاّ عبر تكامله وتفاعل أجزائه . ويكمنُ  تأثيرُ الشعر القديم وجماله ، أو أي شكل من أشكال الشعر في تكامله .فنحن حين نُصغي إلى  قصيدة قديمة لا نُصغي  إلى محتواها وحدَه ، أو شكلها وحده ،وإنّما إلى تفاعل الاثنين معاً . وينسحب هذا الكلام على الإبداع الحديث .
وغابت عن معظم النقد الحديث الدراسات النصية للشـعر القديم ، إلى جانب أ نّه ، أي النقد ،لم يَفِـدْ في  دراســته للشعر القديم من معطيات العلوم الإنسانية وبخاصة علم الجمال .
ما نودّ تأكيدَهُ هنا أنّ معظم النقد الحديث كان يتناول النصوص القديمة إمّا بأدوات القدماء التي لم يتجاوز زمنُها القرن الرابع الهجري ، أي إنهم درسوا ذلك الشعر  بأدوات نقاده . وإمّا بأدوات غير عربية لاتنسجم  وخصوصية  هـذا الشعركتطبيق المناهج النفسية ، والأسطورية ، والبنيوية ، ومن ثم التفكيكية بطريقة تعسفية .
ونحن لا نقف في وجه انفتاح النقد على الحوار ، بل ندعو إليه ولكن ينبغي استخدام كل ذلك بما ينسجم وهوية الشعر العربي القديم .
ولعلنا نستطيع القول : إنّ الخطّين المذكورين في النقد لم يخدما الظاهرة الإبداعية القديمة أو الحديثة ، بل ظلماهما إلى جانب أنهما لم يستطيعا أنْ يتوصّلا إلى الكشف عن "شعريتهما" عبر ما هو فني وجمالي فيهما .
إن اعتماد الخطاب النقدي على الحوار وعلى العلوم الإنسانية المختلفة ، ومواجهته المباشرة للنص الإبداعي ، وتملّكه للرؤية الواضحة والرؤيا المشروعة ، وكذلك التثبت من استخدامه للمصطلح ، ومراعاة هوية النصوص الإبداعية التي يتعامل معها يجعل هذا النقد أكثر فاعلية وخصوصية ، وتأثيراً في المرسِـل ، والمرسَل إليه ، والرسالة ،  وكذلك  في رسـم مشـروعه النقدي الذي يسـتشفّ مـن خلاله المستقبل .
ومن بين العلوم الإنسانية التي لم يَفِد النقد الحديث منها كما ينبغي " علم الجمال " . وهناك دراسات نقدية عربية اعتمدت على علـم الجمال ،  ولكنها ما تزال خجولة ، تعاني من ضعف الأدوات المستخدمة ، وماهية المصطلح الجمالي، وبعضُها منقولٌ بنصّه عن  الغرب ، ومطبّقٌ بطريقة ليست في صالح النص الإبداعي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire