عاشراً - : الصورة الفنية :


عاشراً - : الصورة الفنية :
الصورة الفنية تشكيل يتكون من مجموعة من العناصر، وهي تقاطع لمجموعة من العلاقات التعبيرية والفنية، وتعكس من خلال اتحاد عناصرها الذاتية والموضوعية، وتداخلها وتكاملها تصوّر فرد أو فـئة أو مجموعة في فترة معيّنة، وتكشف من خلال تكثيفها للتجربة الذاتية وتجسيدها لها عن تجارب متعددة لها امتدادها التاريخي وعمقها الإنساني. والخلاف حول مفهوم الصورة قديمٌ حديث تطوَّر بتطور أشكال العلاقات الإنسانية، واتسع ليشمل ميادبن الفلسفة، وعلم الجمال، ونظرية الفن. ولعل أبسط تبرير لديمومة الخلاف حول مفهوم الصورة، واتساع مجال دراستها يعود إلى أن الصورةَ تركيبٌ معقّد يحتوي العنصر الفني والفلسفي والجمالي والاجتماعي.
-       من أولى المهام التي تنفّذها الصورة الفنية أنها تُجسِّد تجربةَ الفنان وتبلورُ رؤاه، وتعمّق إحساسه بالأشياء، وتساعده على تمثِّلِ موضوعه تمثّلاً حسيَّاً، كما تساعده على التواصل مع العالم الخارجي والاتحاد به .
-       والصور بكونها تجسّد المفهوم، وتشخّص المعنوي، وتجعل المحسوس أكثر حسية تُعَـدُّ بالنسبة إلى المتلقي مدخلاً إلى عالم الفنان، والإحساس بتجربته.
-       كما أنها من أهم معايير الناقد في الحكم على التجربة الفنية وأصالتها. ولما كانت الصورة تصهر في شكلها النهائي عناصر متعددة: ذاتية وموضوعية، فإن دراستها تعني دراسة تلك العناصر منفردة ومجتمعة، وهي لهذا الطريق الهام بالنسبة إلى الناقد للولوج إلى جوهر العمل الفني وجمالياته المختلفة .
-       ولا تتوقف أهمية الصورة عند خدمة الفنان والمتلقي والناقد، بل تتعدى ذلك إلى الواقع فهي ضمن إمكاناتها المتاحة تُعيد تشكيله من جديد، وهي وسيلة لتجسيده وتشخيصه، بحيث تجعلهُ أو تجعل بعض عناصره ضمن العمل الفني ماثلاً أمام المتلقي، وحيّـاً وخصباً في مخيلة الفنان .
-       وتُعَدُّ الصورة الفنيه بالنسبة إلى العمل الفني مجاله الحيوي الذي ينمو فيه. فهي أولاً تصهر الكلمات التي تبدو خارج النص متناقضة، أو متباعدة، وتجعلها وحدة بنائية متكاملة ذات مناخ منسجم، وأبعاد متناغمة. وبما أن الصورة ترتكز على الخيال، فهي تجمع بين أشياء لا تُجمع فـي الواقع، وتوحّد بين أشياء متناقصة، وتقرب بين أشياء متباعدة. وهي ثانياً تقوم على إخصاب اللغة عن طريق تلقيح الكلمات، وصهرها ضمن السياق .
-       وعن طريق الصورة الفنية يُجسِّدُ الشعراء رؤاهم. فالرؤيا تجربة مع المستقبل من خلال الواقع عن طريق الذات المبدعة. وهذه التجربة في حيـِّز الممكن المكوّن من عناصر متعددة غير واضحة الملامح، ولا يمكن أن يتبلور هذا الممكن أو يتجسد إلا ضمن الصورة الفنية التي تقوم بتنسيق الرؤيا وبنائها وإعطائها أبعـاداً خصبة ونامية . وما يُقال عن الرؤيا ينطبق على عناصر الرؤية أيضاً .
-       وانطلاقاً من هذا الحيز - حيّز بناء الرؤيا - تقوم الصورة ببناء العالم الفني المستقل الموازي للعالم الموضوعي. فعن طريق اتحاد الصور الجزئية، واندماجها تتكوّن - بفضل الوحدة العضوية - الصورة الكلية التي تتميز في الأعمال الإبداعية عادة بشروط داخلية متماسكة ومتميزة وعالم متكامل، وحياة مستقلة. ويستطيع الفنان عبر بنائه للعالم الفني أن يُجسّد تجربتـه، ومثُلَه الجمالية، ونماذجه الفنية ويعمّمها. ودون بناء العالم الفني المستقل يصبح الفن نَسْخَاً للموضوع. والفضل في كل ذلك يعود إلى الصورة الفنية.
-       ولابد من القول: إن الصورة الفنية هي الوحيدة القادرة على صياغة النموذج الفني وتعميمه.
-       ولعل أهم مهمة للصورة الفنية أنها تساهم بنقل (المفاهيم الجمالية المجرّدة) إلى (قيم جمالية)، وهي سببٌ أساسي في صياغة ( المثل الجمالي ) وبلورة من ثم ( الوعي الجمالي ) الذي نستطيع من خلاله الحكم الكلي على تجربة الفنان .
-        ولابد أخيراً من الإشارة إلى أن الصورة الفنية التي تأخذ فاعليتها وتأثيرها ينبغي أن تراعي الأمور التالية :
أولاً : تمثّلها لما هو موضوعي . إن الصورة التي لا تبدو فيها حركة الحياة تبدو جافة وجامدة. فالحياة يكوّنها المجموع، والصورة الفنية موجهة - في النتيجة - إلى هذا المجموع، ولا يمكن له أن يتفاعل معها أو تأخذ طريقها إليه إلا إذا كانت تمثل ذلك المجموع. ومن الطبيعي ألا تستطيع الصورة احتواء الحياة بجميع عناصرها، والمدرَك الحسي باتساعه، فهـي ليست فيلماً تسجيلياً يعكس بشـكل مباشـر ما يجري، وإنما تستطيع أن تقدّم تلك الحياة عن طريق النموذج الفني المنتقى من الأصيل في الموضوع الذي يمكن أن يُعمّم .
والمهمة الثانية للصورة أن تتجاوز الموضوعي. ويتم هذا التجاوز عن طريق وعي الفنان لما يُحيط به، والإيحاء بالإيجابي وتثبيته، وفضح السلبي، ومن ثم تجاوزه.
وتتميّز المهمة الثالثة بوجود الفنان ضمن إبداعه للصورة .
إن اعتماد الصورة على معطيات الموضوع وبناء الرؤيا لا يُلغي شخصية المبدع، بل إن الصورة في تلك الحال أحوج ما تكون إلى إمكانات الفنان الإبداعية وإلى تميـّزه الخاص. ولا بد من القول: إن العلاقة بين المبدع والموضوع علاقة ذات وجهين: الموضوع يقدّم نفسه إلى المبدع، والمبدع يعود إلى الموضوع فيكوّنه من جديد، ويُضيف - من خلال فكره وعاطفته ولا شعوره - شكلَهُ الأمثلَ الذي تبدو الصورة الفنية فيه. إن الصورة هي علاقة تفاعل بين الموضوع والفنان. ولهذا لا يمكن أن يُلغَى إبداع الفنان، ولا يمكن مقابل ذلك للفنان أن يُنتج إبداعه بعيداً عن الموضوع. ومن هنا أيضاً نستطيع أن نفهم الخلل الذي يُصيب الصورة الفنية التي تُغلِّبُ عنصراً على آخر دون إدراك العلاقة المتينة بين الموضوع والذات

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire